قال الشيخ العلامة المفتي تقي العثماني في كتابه تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم:
إن الأصل في باب الرقية أن تكون بقراءة القرآن الكريم أو بعض أسماء الله تعالى أو صفاته، وينفث به المريض، وقد ثبت ذلك من النبي ﷺ في عدة أحاديث. أما كتابة المعوذات وتعليقها في عنق الصبيان والمرضى، أو كتابتها وسقي مدادها للمريض، فقد ثبت عن عدة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله ﷺ: إذا فزع أحدكم في نومه فليقل: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وسوء عقابه، ومن شر عباده، ومن شر الشياطين وأن يحضرون. فكان عبد الله (يعني ابن عمر رضي الله عنه) يعلمها ولده، من أدرك منهم، ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه([1]).
وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن أبي عصمة قال: «سألت سعيد بن المسيب عن التعويذ، فقال: لا بأس إذا كان في أديم»، وأخرج عن عطاء في الحائض يكون عليها التعويذ، قال: «إن كان في أديم فلتنزعه، وإن كان في قصبة فضة فإن شاءت وضعته، وإن شاءت لم تضعه»، وأخرج عن مجاهد أنه كان يكتب للناس التعويذ فيعلقه عليهم، وأخرج عن أبي جعفر، ومحمد بن سيرين، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، والضحاك ما يدل على أنهم كانوا يبيحون كتابة التعويذ وتعليقه، أو ربطه بالعضد ونحوه.
وقال الحافظ ابن تيمية رحمه الله في فتاواه: «ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح، ويغسل ويسقى، كما نص على ذلك أحمد وغيره، قال عبد الله أحمد: قرأت على أبي، ثنا يعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن محمد بن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب: بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين ﴿كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحىها﴾، ﴿كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، بلغ فهل يهلك إلا القوم الفسقون﴾. قال أبي: حدثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه. وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى. قال أبي: وزاد فيه وكيع: فتسقى وينضح ما دون سرتها. قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف». ثم أخرج ابن تيمية رحمه الله أثر ابن عباس هذا من طريق آخر، وقال في آخره: «قال علي (يعني ابن الحسن بن شقيق راوي الأثر): يكتب في كاغذة فيعلق على عضد المرأة. قال علي: وقد جربناه فلم نر شيئا أعجب منه. فإذا وضعت تحله سريعا، ثم تجعله في خرقة أو تحرقه»([2]).
وفي هذه الآثار حجة على من زعم في عصرنا أن كتابة التعاويذ وسقيها أو تعليقها ممنوعا شرعا، وقد توغل بعضهم حنى زعم أنه شرك، واستدل بما أخرجه أبو داود عن زينب امرأة عبد الله، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك»([3])، ولكن في تمام هذا الحديث ما يرد على هذا الاستدلال. وفيه: «قالت: قلت: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها. إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله ﷺ يقول: أذهب البأس رب الناس … إلخ».
فدل هذا الحديث صراحة على أن الرقية الممنوعة في الحديث إنما هي رقية أهل الشرك التي يستمدون فيها بالشياطين وغيرها. أما الرقية التي لا شرك فيها، فإنها مباحة، وقد ثبتت عن النبي ﷺ بأحاديث كثيرة، وكذلك الحال في التمائم؛ فإنها جمع تميمة، وكانت خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يزعمون أنها مؤثرة بذاتها. قال الشوكاني، وهو يشرح حديث أبي داود في نيل الأوطار: «جعل هذه الثلاثة من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر بنفسه»([4]).
وقال ابن عابدين في رد المحتار: «وفي الشلبي عن ابن الأثير: التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام … لأنهم يعتقدون أنها تمام الدواء والشفاء، بل جعلوها شركا؛ لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع من غير الله تعالى الذي هو دافعه»([5]).
فتبين بهذا أن التمائم المحرمة لها بالتعاويذ المكتوبة المشتملة على آيات من القرآن أو شيء من الذكر؛ فإنها مباحة عند جماهير فقهاء الأمة، بل استحبها بعض العلماء إذا كانت بأذكار مأثورة، كما نقل عنهم الشوكاني في النيل، والله أعلم.
تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم: 4/ ص: 187-188
التعليقات:
[1] المصنف لابن أبي شيبة: 8/39.
[2] الفتاوى لابن تيمية: 19/64.
[3] أبو داود رقم: 3883، وابن ماجه: 3530 والحديث صحيح.
[4] نيل الأوطار: 8/177
[5] رد المحتار: 6/363