الطلاق الثلاث بلفظ واحد

الطلاق الثلاث بلفظ واحد

بقلم: العلامة المحدث الكبير الشيخ محمود حسين السلهتي البنجلاديشي

اختلف العلماء في الطلاق الثلاث بلفظ واحد، هل يقع ثلاثا أو واحدة؟

فذهب جمهور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة إلى أنه يقع ثلاثا.

وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنها يقع واحدة -وهو قول طاؤس ومحمد بن إسحاق إمام المغازي ومذهب الإمامية وقول ابن تيمية، وبه أخذ بعض المتأخرين من الفقهاء؛ دفعا للحرج عن الناس و تقليلا لحوادث الطلاق و فرارا من مفاسد التحليل.

وقد أطال الكلام في المسألة الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين له وانتصر لرأي ابن تيمية وفعل مثله الشوكاني في نيل الأوطار وله رسالة مستقلة في تفنيد أدلة الجمهور.

أدلة الجمهور:

حديث عائشة أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت، فطلق؛ فسئل النبي ﷺ: «أ تحل للأول؟» قال: «لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول» (البخاري)

فقولها «أنه طلق امرأته ثلاثا» ظاهره في كونها مجموعة، ولم يأذن النبي ﷺ في العود إلى الزوج الأول إلا بعد المجامعة. فعلم أنها تقع ثلاثا.

حديث ابن عباس – رضي الله عنه – بسند صحيح من طريق مجاهد عند أبي داود، قال: «كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننا أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس! إن الله قال: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا﴾ وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك».

أن عمر – رضي الله عنه – قضى بذلك في أيام خلافته فأقروه عليه ولم ينكر عليه أحد وقوع الثلاث بلفظ واحد، فدل ذلك على الإجماع.

أدلة أهل الظاهر:

ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنه – برواية طاؤس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه، فأمضاه عليهم.

وفي رواية عن طاؤس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: «أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم».

ما رواه محمد بن إسحاق برواية عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي ﷺ: «كيف طلقتها؟» قال: «ثلاثا في مجلس واحد» فقال النبي ﷺ: «إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت» فارتجعها. وأخرجه أيضا أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق محمد بن إسحاق.

الردود على أدلة الظاهرية:

أما الحديث الأول فقد أجابوا عنه فوجوه متعددة:

أولا: أن هذا في غير المدخول بها كما يدل عليه رواية أبي داود عن ابن عباس قال: «أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة» وهو جواب إسحاق ابن راهويه وبه جزم زكريا الساجي ووجهوه بأن غير المدخول بها تَبِينُ إذا قال لها زوجها أنت طالق فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة.

ثانيا: أن رواية طاؤس شاذة وهو جواب البيهقي فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي ﷺ شيئا ويفتي خلافه؛ فيتعين المصير إلى الترجيح والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم.

ثالثا: أنه منسوخ، وهو جواب الشافعي، فقد نقل البيهقي عنه أنه قال يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك. ثم قال البيهقي: ويقويه ما أخرجه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك -وكلام ابن عباس «أنه كان يفعل في زمن أبي بكر» محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ.

رابعا: أن هذا الحديث مضطرب، وهو جواب القرطبي، فقد قال في المفهم شرح مسلم: «وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر، فكيف ينفرد به واحد من واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره وإن لم يقتض القطع ببطلانه».

خامسا: أنه ورد في صورة خاصة، وهو جواب ابن سريج وغيره، فقد قال: يشبه أن يكون ورد في تكرار اللفظ، كأنه يقول: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» وكانوا أولاً على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر في الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار، فأمضاه عليهم. وهذا الجواب قد ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: «أن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة» وقال النووي: إن هذا أصح الأجوبة.

سادسا: تأويل قوله «واحدة» وهو أن معنى قوله: «كان الثلاث واحدة» أن الناس في زمن النبي ﷺ كانوا يطلقون واحدة، فلما كان زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثا. وهذا الجواب منسوب إلى أبي زرعة الرازي ورجحه ابن العربي. ومحصله: أن الطلاق الموقع في عهد عمر ثلاثا كان يوقع قبل ذلك واحدة؛ لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أو كانوا يستعملونها نادراً، وأما في عهد عمر فكثر استعمالهم لها. ومعنى قوله «فأمضاه عليهم وأجازه وغير ذلك»: أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن تغير الحكم في الواحدة، فالله أعلم.

سابعا: أن قوله «ثلاثا» محمول على أن المراد بها لفظ «البتة». قال الحافظ ابن حجر: وهو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب (وهو باب من جوز الطلاق الثلاث) الآثار التي فيها «البتة» والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث؛ كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن «البتة» إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا أن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكان بعض رواته حمل لفظ «البتة»، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال «أردت بالبتة الواحدة»، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم.

وأما الحديث الثاني فأجيب عنه بأربعة أشياء:

أولا: أن رواية محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما. وأجيب عنه بأنه ليس كل مختلف فيه مردودا وقد احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد، كحديث أن النبي ﷺ رد على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول.

ثانيا: أن ابن عباس – رضي الله عنه – راوي هذا الحديث أفتى بخلافه؛ فإنه ذهب إلى وقوع الثلاث كما تقدم، ولا يظن بابن عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي ﷺ ثم يفتي بخلافه إلا بمرجح ظهر له، وراوي الخبر أخبر من غيره بما روى. وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك.

ثالثا: أنه مذهب شاذ فلا يعمل به. وأجيب بأنه نقل عن علي وابن مسعود و عبد الرحمن بن عوف والزبير مثله وكذلك هو منقول من جماعة من مشايخ قرطبة وأصحاب ابن عباس كعطاء وطاؤس وعمرو بن دينار – فكيف هو شاذ؟

رابعا: أن أبا داوي رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة. فهذا حديث مضطرب منقطع؛ فإنه هو عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فقال له رسول الله ﷺ «أرجعها» الحديث، والثابت برواية غيره أنه طلق امرأته البتة، فاستحلفه رسول الله ﷺ ما أراد إلا واحدة، فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها إليه.

فهذا اضطراب في الاسم والفعل، ولا يحتج بشيء من مثل هذا.قال ابن حجر: وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث، فقال: «طلقها ثلاثا»، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس.

الخلاصة:

فظهر أن كل ما يستدل به الفريق الثاني لا يقوى على أدلة الجمهور وعلى إجماع الصحابة، وكفى بهذا الإجماع حجة وبرهانا، وهذا ما ندين الله عز وجل به ونعتقد أنه الصواب؛ لأن مخالفة إجماع الصحابة وإجماع الفقهاء ليس بالأمر اليسير.قال ابن حجر: «وفي الجملة، فالذي وقع في هذه المسئلة نظير ما وقع في مسئلة المتعة سواء، أعني قول جابر أنها كانت تفعل في عهد النبي ﷺ وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا. فالراجح في الموقعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر. فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق، والله أعلم».

Scroll to Top