حديث عن كتاب الآثار

حديث عن كتاب الآثار

بقلم: الشيخ الفقيه المحدث عطاء الرحمن السِلْهِتي البنغلاديشي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإني لما كنت طالباً بجامعة قاسم العلوم الواقعة بجوار مرقد الشاه جلال – رحمه الله تعالى – بسِلْهِت بَنْغَلَادِيْش وأتلقى كتاب «الهداية» وغيرها وأطالع في خلال الدراسة المجلة الشهرية المسماة بـ«بيِّنات» الصادرة من الجامعة العربية الإسلامية بنوري تاؤن كراتشي، كنت أجد فيها مقالات الشيخ الفقيه المحدث الناقد عبد الرشيد النعماني رحمه الله تعالى. وأيضا طالعت كتابه القيم «امام ابن ماجہ اور علم حديث» بالأردية، فأحببت أن أقتبس منه العلم وأن أستجيزه إجازة كتب الحديث.

ثم لما وفقت لتكميل العلوم في جامعة دار العلوم كراتشي، حضرت في خدمة الشيخ النعماني والتمست منه أن أقرأ عليه كتاب الآثار وغيره من الكتب، فقبله بقبول حسن ودرَّسني كتاب «الآثار» درسا درسا، و«الموطأ» كليهما برواية الإمام محمد الشيباني، و«شرح معاني الآثار» للإمام الطحاوي، و«جامع المسانيد» للإمام أبي المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي بقراءة جزء من الأجزاء المعتبرة. وقرأت أطراف الكتب الستة وغيرها من الكتب التي أسانيدها مذكورة في كتابه النافع «ما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجة».

كتاب الآثار من كتب الأقدمين

كتاب الآثار من كتب الأقدمين؛ لأن مؤلفه سراج الأمّة وفقيه الملة حافظ السُّنّة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي – رحمه الله تعالى -. فغلب الناسَ بالحفظ والفقه والصيانة وشدة الورع، فقد روى الحافظ الذهبي في «مناقب أبي حنيفة» عن مِسْعَر بن كِدَام قال: طلبنا مع أبي حنيفة الحديثَ فغلبَنا وأخذْنا في الزهد فبَرَعَ علينا وطلبْنا معه الفقه فجاء منه ما تَرَوْنَ (ص27).

وقال إمام الجرح والتعديل يحيى القطان: «إنه والله لأعلم هذه الأمة بما جاء عن الله ورسوله» (مقدمة كتاب التعليم: ص134). فمع هذا العلم الغزير والحفظ الكثير والطلب البليغ يقوم عشرين سنة يتفكَّر ويضرب الأمثال ويَفْرِزُ قول كلّ صحابي على الأصول القائمة؛ كما يرويه الحافظ يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عنه، ذكره الحافظ الديلمي، ثم يؤلف كتابه في «الآثار» الذي يرويه عنه تلامذته الأئمة الكبار: مثل زفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وغيرهم من المحدثين والفقهاء.

وفي مناقب أبي حنيفة للحافظ زكريا بن يحيى النيسابوري بسنده عن يحيى بن نصر قال: سمعت أبا حنيفة – رحمه الله تعالى – يقول: عندي صناديق من الحديث، ما أخرجت منها اليسير الذي ينتفع به.

وفي «الميزان» للشعراني: وقد كان الإمام أبو حنيفة يشترط في الحديث المنقول عن رسول الله ﷺ قبل العمل به أن يرويه عن ذلك الصحابي جمع أتقياء عن مثلهم، وهكذا: 1/62.

وفي مناقب أبي حنيفة للذهبي قال الإمام ابن معين: سمعت عبيد بن أبي قرة سمعت يحيى بن الضُّرَيْس يقول: شهدت الثوري وأتاه رجل، فقال: ما تَنْقِمُ على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذُ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله ﷺ والآثار الصحاح عنه التي فَشَت في أيدي الثقات عن الثقات. فإن لم أجد فبِقول أصحابه آخذ بقول مَن شئت. وأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وعطاء فأجتهد كما اجتهدوا (ص20).

وفي «الانتقاء» عن ابن المبارك قال: سمعت الثوري يقول: كان أبو حنيفة شديد الأخذ للعلم، ذابًّا عن حُرَم الله أن تُستَحَلَّ، يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي كان يحملها الثقات، وبالآخر من فعل رسول الله ﷺ وبما أدرك عليه علماء الكوفة، وقد شَنَّع عليه قوم يغفر الله لنا ولهم. قال ابن عبد البر: كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة؛ لردّه كثيراً من أخبار الآحاد العدول؛ لأنه كان يذهب إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذَّ عن ذلك ردَّه وسمّاه شاذًّا.

وكان أيضا من شرطه ما أخرجه الحاكم في مدخله ص17 بسنده عن أبي حنيفة أنه قال: لا يحل للرجل أن يَروِي الحديث إلا إذا سمعه من فم المحدث، فيحفظُه ثم يُحدِّث به.

شهادة الجهابذة لأبي حنيفة بالورع في الحديث والتَّوَقّي فيه

عن وكيع قال: لقد وُجِد الورع عن أبي حنيفة في الحديث ما لم يُوجد عن غيره كما في مناقبه لصدر الأئمة المكي:1/197 وقال علي بن الجعد: أبو حنيفة إذا جاء بالحديث جاء به مِثْلَ الدُّرّ كما في «جامع المسانيد للخوارزمي»: 2/ 308، قال أبو داود: رحم الله أبا حنيفة كان إماماً، رواه في «الانتقاء»: ص66 طبعه بيروت.

كتاب الآثار أوّل ما صنّف في الصحيح

وعلى هذا فـ«كتاب الآثار» هو أوّل مصنّف في الصحيح، جمع فيه الإمام الأعظم صحاح السنن، ومَزَجَه بأقوال الصحابة والتابعين، وهو أوّل كتابٍ دُوِّنت فيه الأحاديث على الترتيب الفقهي المعروف، وقد تبعه الإمام مالك في «موطأه» كما قال الإمام السيوطي في «تبييض الصّحيفة في مناقب أبي حنيفة» ص129.

والإمام سفيان الثوري في «جامعه» كما قال الإمام مسعود بن شيبة السِّنْدي في «كتاب التعليم» ص 133، وعليه وعليهما بنى كل من جاء بعدهم وأراد أن يتوخَّى الصحيح أو يجمع في السنن. ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على مِنْوالهم وكثرت التصانيف الحديثية في منتصف القرن الثاني مثل «كتاب السنن» للوكيع و«كتاب السنن» لابن جريج، و«جامع معمر بن راشد» و«كتاب الزهد» لابن المبارك وغيرها. هلمّ جرًّا إلى رأس المئتين.

نسخ كتاب الآثار

ولكتاب الآثار نسخ كثيرة: منها برواية الإمام محمد، وقد عُني بعض الأئمة الكبار بشرح هذا الكتاب وبرجاله، فشرحه الطحاوي وجمال الدين القونوي وعلي بن مراد الموصلي وغيرهم، وترجم لرجاله ابن حجر وقاسم بن قطلوبغا. وانتخب الإمام محمد الأحاديث المرفوعة من مرويات الإمام أبي حنيفة وسماه مسنداً وهو المعروف بـ«نسخة محمد من مسند أبي حنيفة» ويروي الخوارزمي هذا المسند في جامعه.

ومنها برواية الإمام أبي يوسف القاضي، وطبع هذا الكتاب بمصر طبعاً جديداً وعليه تعليقات وجيزة نفيسة للمحقق أبي الوفاء الأفغاني – رحمه الله تعالى -.

ومنها برواية الإمام زفر بن الهذيل وتسمى نسخته «كتاب الآثار» و«السنن» ولهذه النسخة ذكر في مصنفات القوم كابن ماكولاَ في «إكماله» والسمعاني في «أنسابه» وابن الأثير في «لبابه» والقرشي في «جواهره».

ومنها برواية الإمام حسن بن زياد اللؤلؤي وتسمى أيضا بمسند أبي حنيفة لحسن بن زياد؛ كما قال الخوارزمي في «جامعه» ولهذه النسخة ذكر في مصنفات القوم كابن حجر في «لسانه»: 5/31 والحافظ الصالحي في «عقود الجمان» وابن طولون بسنده في «الفهرست الأوسط» وهو من مرويات الحافظ ابن حجر أيضًا.

ومنها برواية محمد بن خالد الوهبي المعروفة بمسند أحمد بن محمد الكلاعي.

ومنها برواية حفص بن غياث. ومنها برواية الإمام حماد بن أبي حنيفة.

مرويات أبي حنيفة على أربعة أقسام

اعلم أن الشيخ محمد أمين الأوركزئي تكلم عن مرويات الإمام أبي حنيفة في كتابه القيم الموسوم بـ«مسانيد الإمام أبي حنيفة» على مائتي صفحة. فقسم مروياته على أربعة أقسام:1ــ كتاب الآثار،2ـــ مسند أبي حنيفة،3 ــ الأربعينات، 4 ــ والوحدانيات.

كتاب الآثار من تأليف الإمام أبي حنيفة نفسه

أما كتاب الآثار فقد تقدم أنه من تأليف الإمام أبي حنيفة نفسه. كما سبق من قول يحيى بن نصر. وأما مسانيد الإمام أبي حنيفة فهي من مرويات الإمام أبي حنيفة التي رواها الإمام في خلال بيان المسائل أو غيرها، فجمعها العلماء المحدثون الفقهاء ممن كانوا يستفيدون منه بلا واسطة أو بواسطة.

وجه تأليف جامع المسانيد

قال الخوارزمي في «جامع المسانيد»: 1/4: وقد سمعت بالشام عن بعض الجاهلين مقداره (أي: أبي حنيفة) أنه ينقصه ويستصغره ويستعظم غيره ويستحقره وينسبه إلى قلة رواية الحديث ويستدل باشتهار المسند الذي جمعه أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم (المتوفى 346 هـ) للشافعي – رحمه الله تعالى – وموطأ مالك ومسند الأمام أحمد، وزعم أنه ليس لأبي حنيفة مسند، وكان لا يروي إلا عدة أحاديث … فأردت أن أجمع بين خمسة عشر من مسانيده التي جمعها له فحول علماء الحديث… فذكر مسانيدهم.

مسانيد الإمام أبي حنيفة سوى الخمسة عشر

وأما مسانيد الإمام أبي حنيفة سوى الخمسة عشر فهي كما يلي: 1ــ مسند الإمام لأبي عبد الرحمن بن يزيد المقرئ الحافظ. 2ــ مسند الإمام للحافظ ابن عقدة. 3 ــ مسند الإمام لأبي حفص بن شاهين. 4-مسند الإمام لأبي علي البكري. 5- مسند الإمام للحافظ الدارقطني. 6- مسند الإمام للحافظ السخاوي. 7-مسند الإمام للحصكفي. فهذه اثنان وعشرون مسنداً للإمام أبي حنيفة.

وجمع بعض المحدثين الأربعينات المشتملة على مرويات الإمام أبي حنيفة. منهم الإمام المحدث الفقيه الشيخ يوسف بن حسن بن عبد الهادي الصالحي الحنبلي، اسم كتابه: «كتاب الأربعين المختارة من حديث الإمام أبي حنيفة» والشيخ حسن محمد بن شاه محمد بن حسن الهندي، والشيخ مولانا إدريس نغرامي، وسماه: الأربعين من مرويات نعمان سيد المجتهدين، وللإمام الحافظ شمس الدين أبي الحجاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقي المتوفى 648 كتاب المسمى بـ«عوالي الإمام أبي حنيفة».

الإسناد العالي في أسانيد الإمام أبي حنيفة الوحدان

واعلم أن أعلى ما يقع من الإسناد العالي في أسانيد الإمام أبي حنيفة الوحدان. وقد عُني كثير من العلماء بالتأليف في مرويات الإمام عن الصحابة  رضي الله عنهم، ولا أعلم أحداً جمع في وُحداناته جزءٌ إلا الإمام أبا حنيفة. وهذا من ميزاته التي فاق بها أقرانَه وسائر الأئمة. فألف الحافظ أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الشافعي المتوفى 473 هـ جزءا في وُحداناته، وكذلك ألَّف الشيخ أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي والإمام أبو بكر بن محمد السرخسي والإمام أبو الحسن علي بن أحمد الحنفي أجزاءً في وُحداناته، وهذه الأجزاء من مرويات الحافظ ابن طولون بإسناده في «الفهرست الأوسط» والحافظ ابن حجر بإسناده في «المعجم المفهرس» وللإمام عبد الله بن حسين بن أبي بكر النيسابوري أيضاً رسالة في هذا الباب المسماة بـ«الأحاديث السبعة عن سبعة من الصحابة الذين روى عنهم الإمام أبو حنيفة».

وللشيخ عبد العزيز يحيى السعدي كتاب موسوم بـ«الإمام الأعظم أبو حنيفة والثُّنائيات في مسانيده» وإن شئت التفصيل حول هذا المبحث فراجع «مسانيد الإمام أبي حنيفة» للشيخ محمد أمين الأوركزئي، قد أحسن التحقيق فيها وأجاد. فجزاه الله عنَّا خير الجزاء.

عدد روايات الآثار

اعلم أن كتاب الآثار برواية الإمام محمد فيه ستة عشر وتسعمائة حديث من المرفوع والموقوف والآثار للتابعين وغيرهم مثل ما روي في «كتاب السنن» للوكيع و«كتاب السنن» لابن جريج، و«جامع معمر بن راشد» و«كتاب الزهد» لابن المبارك والمصنف لابن أبي شيبة والمصنف لعبد الرزاق (وهو تلميذ أبي حنيفة مباشراً) وغيرها.

الأكثر في كتاب الآثار أقوال كبار التابعين

والأكثر في كتاب الآثار أقوال كبار التابعين؛ لأن قول التابعي الكبير الذي ظهر فتواه في زمن الصحابة حجة عندنا كقول الصحابي، كذا في «التوضيح». وقال ابن القيم في «الإعلام»: قد اختلف السلف في ذلك، فمنهم من قال: يجب اتّباع التابعي فيما أفتى به ولم يُخالفه فيه صحابي ولا تابعي، وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية، وقد صرح الشافعي – رحمه الله تعالى – في موضع بأنه قاله تقليدًا لعطاء، وهذا من كمال علمه وفقهه، فإنه لم يجد في المسألة غيرَ قول عطاء، فكان قوله عنده أقوى ما وُجد في المسألة، ومَن تأمل كتب الأئمة ومن بعدهم وجدها مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي. اهـ. ملخصا (4/156).

قول إبراهيم النخعي حجة عند الحنفية

قول إبراهيم النخعي حجة عندنا إذا لم يخالف قولَ الصحابي فما فوقه؛ فإنه وإن لم يكن من كبار التابعين سِناًّ ولكنه من كبارهم عند الإمام (أبي حنيفة) فقهاً، حتى قال للأوزاعي: إبراهيم أفقه من سالم، ولأن إبراهيم – رحمه الله تعالى – كان ألزم الناس بابن مسعود وأصحابه وكان لِسانَهم في زمانه لا يفارق تلك المحجّة إلا في مواضع يسيرة، وفي تلك اليسيرة أيضاً لا يخرج عن أقوال الصحابة: عليّ وعمر رضي الله عنهم.

الكلام على سماع إبراهيم النخعي من الصحابة

قد توهم العبارة المذكورة أن إبراهيم النخعي أخذ عن ابن مسعود رضي الله عنه، مع أنه لم يلتق به. قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» ص14: «سمعت أبي يقول: لم يلق إبراهيم النخعي أحداً من أصحاب النبي ﷺ إلا عائشة، ولم يسمع منها شيئا. فإنه دخل عليها وهو صغير وأدرك أنساً ولم يسمع منه».  ونقل نحوه عن ابن المديني وابن معين.

رأي الأفغاني فيه

قال الأفغاني في شرحه على كتاب الآثار: وليس بمنكر رواية إبراهيم عن عائشة؛ فإن إبراهيم قد رأى عائشة ــ رضي الله عنها ــ ودخل عليها مع خاله الأسود بن يزيد، ثنا بذلك أبو حامد الصائغ نا محمد بن إسحاق الثقفي ثنا الجوهري ثنا محمد بن الصباح ثنا سويد ثنا سليمان بن بشير (كذا والصواب يسير) عن إبراهيم، قال: أدخلني الأسود على عائشة، وعدا وصاح، ومن كان مسروق عمّ أبيه والأسود خاله فليس يبعد دخوله على عائشة ورؤيته لها وسماعه منها؛ لاختصاصهما بعائشة ولمكانتهما منها، وعائشة رضي الله عنها توفيت سنة ثمان وخمسين، ومات إبراهيم سنة خمس وتسعين، وهو ابن تسع وخمسين. وكان مولده سنة ست وثلاثين. فما بين مولده ووفاتها إلا اثنتان وعشرون سنة: 1 /40 ــ 41.

ميلان الذهبي في «السير»

وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: ولم نجد له سماعاً من الصحابة المتأخرين من الذين كانوا معه بالكوفة، كالبراء وأبي جحيفة وعمرو بن حُريث. وقد دخل على أم المؤمنين عائشة وهو صبي، ولم يثبت له منها سماع؛ على أن روايته عنها في كتب أبي داود والنسائي والقَزْويني. فأهل الصَّنْعة يعدُّون ذلك غير متصل مع عدِّهم كلِّهم لإبراهيم في التابعين لكنه ليس من كبارهم: (4/521).

قال العبد الضعيف

قال العبد الضعيف عفا الله عنه: ولكن يعكر عليه ما في مسند أحمد: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن مغيرة عن إبراهيم، قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله ﷺ، قالت: «ما رأيته كان يفضل ليلة على ليلة»: 6/127. وقال حمزة أحمد الزين في تعليقه على المسند: إسناده صحيح، انفرد ابن أحمد (رقم الحديث: 24836):17/473.

قول محدّث الهند في «حجة الله البالغة»

قال محدّث الهند في «حجة الله البالغة»: وكان سعيد بن المسيب لسانَ فقهاء المدينة وكان أحفظَهم لقضاء عمر ولحديث أبي هريرة، وكان إبراهيم لسانَ فقهاء الكوفة (عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب y وأصحابهما) فإذا تكلما ــ أي: سعيد وإبراهيم ــ بشيء ولم ينسباه إلى أحد؛ فإنه في الأكثر منسوب إلى أحد السلف صريحاً أو إيماءً ونحو ذلك، فاجتمع عليهما فقهاء بلدهما، وأخذوا عنهما وعقلوه وخرّجوا عليه، والله أعلم:1/144. ثم قال: وكان أبو حنيفة ألزمَهم بمذهب إبراهيم وأقرانه لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه دقيقَ النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمّ إقبال، وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا فلَخِّصْ أقوالَ إبراهيم وأقرانِه من «كتاب الآثار» لمحمد – رحمه الله تعالى – و«جامع عبد الرزاق» و«مصنف ابن أبي شيبة» ثم قَايِسْه بمذهبه تجده لا يُفارق تلك المحجَّة إلا في مواضع يسيرة، وفي تلك اليسيرة أيضا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة:1/146.

وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه كان لا يعدل بقول عُمر وابن مسعود إذا اجتمعا، فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجبَ إليه؛ لأنه كان ألطف. (إعلام الموقعين:1/17).

لما لا يسند النخعي الأحاديث إلى قائله؟ وذكر شدة اتباع ابن مسعود ورأيه وهو أعلم الناس بها

وقال الدارقطني في «سننه»: فهذه الرواية وإن كان فيها إرسال فإبراهيم النخعي هو أعلم الناس بعبد الله وبرأيه وبفتياه، قد أخذ ذلك عن أخواله: علقمة والأسود وعبد الرحمن ابني يزيد وغيرهم من كبراء أصحاب عبد الله، وهو القائل: إذا قلتُ لكم: قال ابن مسعود فهو عن جماعة من أصحابه عنه، وإذا سمعته من رجل واحد سميته لكم (3/174). قال الأعمش: كان إبراهيم صيرفي الحديث.

 وأيضا قال في سنن الدارقطني: وعبد الله بن مسعود أتقى لربه وأشحُّ على دينه من أن يروي عن رسول الله ﷺ أنه يقضي بقضاء، ويفتي هو بخلافه، هذا لا يُتوهَّمُ مثلُه على عبد الله بن مسعود، وهو القائل في مسئلة وردتْ عليه لم يسمع فيها عن رسول الله ﷺ شيئا، ولم يبلغه عنه فيها قول: أقولُ فيها برأي، فإن يكن صواباً فمن الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني، ثم بلغه بعد ذلك أن فتياه فيها وافق قضاءَ رسول الله ﷺ في مثلها، فرآه أصحابه عند ذلك فَرِحَ فَرَحاً لم يَرَوْه فَرِح مثلَه، لموافقة فتياه قضاءَ رسول الله ﷺ (3/173).

ولقّب المحدثون إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله بلقب سلسلة الذهب.

قول الإمام الكوثري

وقال الإمام الكوثري: إبراهيم النخعي من أهل هذه الطبقة. قد جمع أشتاتَ علوم هاتين الطبقتين بعد أن تفقه على علقمة، قال أبو نعيم: أدرك إبراهيم أبا سعيد الخدري وعائشة ومَن بعدهما من الصحابة رضي الله عنهم. والشعبي ــ الذي يقول عنه ابن عمر: لما رآه يحدّثُ بالمغازي: لهو أحفَظُ لها مني، وإن كنتُ قد شهدتها مع رسول الله ﷺ ـــ يُفضِّل أبا عِمران إبراهيم النخعي هذا على علماء الأمصار كلها حيث يقول لرجل حضر جنازته عند ما توفي سنة 95 هـ: دفنتم أفقه الناس، فقال الرجل: ومِن الحسن؟ قال أفقَهُ من الحسن ومن أهل البصرة ومن أهل الكوفة وأهل الشام وأهل الحجاز، كما أخرجه أبو نعيم بسنده: 4/220.كما في فقه أهل العراق.

قول المحدث الناقد التهانوي

قال التهانوي – رحمه الله تعالى – في «قواعد في علوم الحديث»: فلما كان ابن مسعود رضي الله عنه هذا حاله، وأنه كان يَتْبَع قضاء رسول الله ﷺ أوّلاً، فإن لم يجد أخذ بقول عمر رضي الله عنه كما مرّ، ولمّا كان إبراهيم أعلم الناس بابن مسعود وبرأيه وبفتياه، وألزم الناس بمذهبه: اختار أبو حنيفة محجّة إبراهيم، وصار ألزم الناس به وبأقرانه، فإذا وجد في المسألة قولا عنه لا يخالف فيه قول صحابي ونحوه اختار قولَ إبراهيم، وترك به القياس واحتج به، كما لا يخفى على من طالع «الآثار» لمحمد – رحمه الله تعالى -.

وما ذلك إلا لكون أقواله في الأكثر منسوبة إلى أحد من السلف صريحاً أو إيماءً؛ بل ربما احتج أبوحنيفة بقول إبراهيم مع وجود قول بعض الصحابة على خلافه، وذلك فيما علم الإمامُ أن قول إبراهيم فيه هو قول عبد الله أو عمر أو علي رضي الله عنهم، وليس برأي منه، وبالجملة فيكون قول إبراهيم حجة وإن لم يصرح به أصحابنا ولكن صنيعهم يدل عليه.

أقوال النخعي في الأكثر منسوبة إلى حديث أو إلى أحد من السلف صريحاً أو إيماءً

الآن أذكر نماذج، منها:

1- أخرج محمد في آثاره: ص 68 (273) عنه قال: لا يتحول الرجل من قراءة إلى قراءة، قال أبوحنيفة: يعني حرفَ عبد الله وحرفَ زيد وغيره. قال في إعلاء السنن: ورجاله ثقات وسنده صحيح. قال العبد الضعيف عفا الله عنه: أخرج الطبراني في الكبير (10/182) عن ابن مسعود  رضي الله عنه مرفوعا: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ على حرف منها فلا يتحول إلى غيره رغبة عنه» وله شاهد من حديث حذيفة  رضي الله عنه قال: «لقي النبي ﷺ جبريل – عليه السلام – وهو عند أحجار المراء، فقال: إن أمتك يقرأون القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منهم على حرف، فليقرأ كما علم ولا يرجع عنه، قال أبي، وقال ابن مهدي: إن من أمتك الضعيف فمن قرأ على حرف فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه» رواه أحمد: 5/385.

2- مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قال: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي السِّنَّوْرِ تَشْرَبُ مِنَ الْإِنَاءِ، قَالَ: «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا بَأْسَ بِشُرْبِ فَضْلِهَا» فَسَأَلْتُهُ: أَيُتَطَهَّرُ بِفَضْلِهَا لِلصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرْخَصَ الْمَاءَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ، وَلَمْ يَنْهَهُ» قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ، قَالَ، وَكَذَلِكَ شُرْبُ غَيْرِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَإِنْ شَرِبَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ نَأْخُذُ. (أخرجه محمد في آثاره رقم 6)

وفيه قول النخعي: «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ» قطعة من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه وضع له وضوءه، فولغ فيه السنور فأخذ يتوضأ فقالوا: يا أبا قتادة! قد ولغ فيه السنور! فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «السنور من أهل البيت وإنه من الطوافين والطوافات عليكم» رواه أحمد ورجاله ثقات غير الحجاج   بن أرطاة، وهو ثقة مدلس، كذا في مجمع الزوائد: 1/216و217.

3- مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ نَأْخُذُ (أخرجه محمد في آثاره (14). يشهد لقول النخعي ما أخرجه أبوداود والبيهقي والحاكم:۱/ ۱۷۰وصححه ووافقه الذهبي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه شهد عبد الرحمن بن عوف يسأل بلالا عن وضوء رسول الله ﷺ، فقال: كان يخرج يقضي حاجته بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه. وما أخرجه البيهقي عن أنس مرفوعا: كان يمسح على الموقين والخمار. وما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي ذر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله ﷺ يمسح على الموقين والخمار.

4- مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «يَسْتَاكُ الْمُحْرِمُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ» قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أخرجه محمد في آثاره (42) يشهد لقول النخعي ما رواه البيهقي:5/65 عن ابن عباس: هل تسوك النبي ﷺ وهو محرم؟ قال: نعم. وأخرج الطبراني في الكبير ورجاله ثقات عن ابن عباس: أن النبي ﷺ احتجم وهو محرم من وجع كان به وتسوك وهو محرم، «مجمع الزوائد»: ۳/ ۲۳۲.

كان إبراهيم كثير الإرسال

وكان إبراهيم كثير الإرسال وقد سبق وجهه في قول إبراهيم عند الدارقطني: إذا قلتُ لكم: قال ابن مسعود فهو عن جماعة من أصحابه عنه، وإذا سمعته من رجل واحد سميته لكم (3/174). انظر أيضا: مشكل الآثار: 2/14وأبو زرعة:2/121والطبقات لابن سعد: 6/272وغيرها، ولذا أهلُ النقد يعدُّون مراسيل النخعي صحاحاً.

اختلف العلماء في الاحتجاج بالمرسل

واختلف العلماء في الاحتجاج بالمرسل فقال الجزائري: «والعمل بالمرسل هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في روايته المشهورة، حكاها النووي وابن القيم وابن كثير وجماعة من المحدثين، وحكاه النووي في «شرح المهذب» عن كثير من الفقهاء أو أكثرهم، قال: ونقله الغزالي في «المستصفى» 1/107 عن الجماهير». وقال رضي الدين محمد بن إبراهيم الشهير بابن الحنبلي في «قفو الأثر»: والمختار فيه التفصيل: قبول مرسل الصحابي إجماعاً، ومرسل أهل القرن الثاني والثالث عندنا (أي: الحنفية)، وعند مالك مطلقاً.

شرائط الإمام الشافعي في قبول الحديث المرسل

وعند الشافعي بأحد أمور خمسة: (كما ذكر الإمام الشافعي نفسه في كتابه «الرسالة» هذه الشروط مفصلة من الفقرة رقم: 1264إلى الفقرة رقم 1274):

(1) أن يسنده غيره، (2) أو أن يرسله آخر وشيوخهما مختلفة، (3) أو أن يعضده قول صحابي، (4) أو أن يعضده قول أكثر العلماء، (5) أو أن يعرف أنه لا يرسل إلا عن عدل. وأما مرسل من دون هؤلاء من الثقات، فمقبول عند بعض أصحابنا، مردود عند آخرين إلا أن يروي الثقات مرسله، كما رووا مسنده، فإن كان الراوي يرسل عن الثقات وغيرهم فعن أبي بكر الرازي من أصحابنا وأبي الوليد الباجي من المالكية: عدم قبول مرسله اتفاقاً (قفو الأثر: ص 67).

قال التهانوي – رحمه الله تعالى – في قواعد في علوم الحديث: وبهذا علم أن كون الراوي يرسل عن الثقات وغيرهم جرح في مرسل من هو دون القرون الثلاثة، وأما أهل القرون الثلاثة فمرسلهم مقبول عندنا مطلقاً (انتهى كلامه). فعلم أن المرسل حجة عند الجمهور وعند الإمام الشافعي إذا وجد أحد هذه الأمور الخمسة فعلى هذا الإرسالُ غيرُ قدح.

قول ابن عبد البر: كلُّ من عُرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه وترسيله مقبول

وقد قال أبو عمر في أوائل «التمهيد»: وكلُّ من عُرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه وترسيله مقبول، فمراسيل سعيد بن المسيّب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح (1/30).

مرسلات إبراهيم صحيحة عند ابن معين غيره

وأسند (ابن عدي: 3/1029 في كامله) قال: ثنا ابن أبي بكر ثنا عباس سمعت يحيى (بن معين) يقول: مرسلات إبراهيم صحيحة إلا حديث تاج البحرين وحديث الضحك في الصلاة. وقد سبق قول إبراهيم عند الدارقطني: إذا قلتُ لكم: قال ابن مسعود فهوعن جماعة من أصحابه عنه وإذا سمعته من رجل واحد سميته لكم (3/174).

قول الإمام الكوثري فيه

وقال الإمام الكوثري: وأهلُ النقد يعدُّون مراسيل النخعي صحاحاً؛ بل يفضّلون مراسيله على مسانيد نفسه. وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان الشعبي أبو الضحى وإبراهيم وأصحابنا يجتمعون في المسجد، فيتذاكرون الحديث، فإذا جاءتهم فُتيا ليس عندهم منها شيء، رموا بأبصارهم إلى إبراهيم النخعي. وقال الشعبي عن إبراهيم: إنه نشأ في أهل بيت فقه، فأخذ فقههم ثم جالَسَنَا فأخذ صفوَ حديثنا إلى فقه أهل بيته، فإذا نعيتُه أنعَى العلمَ، ما خلّف بعده مثلَه، وقال سعيد بن جبير: تستفتونِّـي وفيكم إبراهيم النخعي؟! ومما أخرجه أبو نعيم في الحلية بسنده: 4/222 عن الأعمش قال: ما رأيت إبراهيم يقول برأيه في شيء قط، ومثله في «ذم الكلام» لابن متٍّ.

فعلى هذا يكون كلُّ ما يُروَى عنه من الأقوال والأفعال في أبواب الفقه وفي آثار أبي يوسف وفي آثار محمد بن الحسن والمصنف لابن أبي شيبة وغيرها أثرًا من الآثار حجة.

خلاصة القول

(1) أن إبراهيم كان صيرفي الحديث؛

(2) ولقّب المحدثون: «إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله» بلقب سلسلة الذهب؛

(3) وأن مراسيله صحاح عندهم؛

(4) وأقوال النخعي في الأكثر منسوبة إلى حديث أو إلى أحد من السلف صريحاً أو إيماءً؛

(5) ولا شك أنه بحر من البحور وعَلَم من أعلام الدين؛

(6) وأن علمَ عبد الله بن مسعود يُطلب من عنده؛

(7) وأنه ﷺ قال: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

فلهذه الوجوه جعل أبو حنيفة قول إبراهيم وفعله حجة وجعل أحاديثه أصول مذهبه.

هذا آخر ما أردناه والحمد لله أولا وآخراً وأستغفر الله عزوجل وأتوب إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وأنا محمد المدعو بـ«عطاء الرحمن» بن المفتي مولانا سعيد الدين أحمد – غفر لهما ولوالديهما -الكُوبْشَهَرِي ثم السِّلْهَتِي ثم البَنْغَلَادِيشِي. تحريراً: 27 رمضان المبارك 1441هـ المطابق: 21/5/2020 م.

 

Scroll to Top