وجمال العلم إصلاح العمل

وجمال العلم إصلاح العمل

(بقلم: عبد الله فهيم السلهتي)

الجلسات والدورات العلمية التي تعقد لنشر العلم الديني لا مجال لذي لبٍّ أن ينكر أهميتها، ولاسيما الحاجة ماسة إليها في البلاد النائية عن البلدان الإسلامية، مثل: أوربا وأمريكا وغيرهما، بسبب ندرة المعاهد الشرعية والمدارس الإسلامية فيها، وبسبب قلة تواجد العلماء المتقنين في ربوعها، ومن ثم انعقادُ دورة علمية يتيح فرصة ذهبية لطلاب العلم الشرعي للتحلي بزينة العلم وللتزود بمعلومات تنير لهم سبيل الرشد والهدى، وتيسر لهم متابعة السير على دينهم القويم.    

وبناء على هذا انعقدت حفلة علمية مباركة في مدينة برمنجهام البريطانية في يوم السبت الثالث من شهر مايو 2025 م/ الخامس من ذي القعدة 1446 هج، نظمتها كلية برمنجهام للعلوم الإنسانية في مقرها الرئيسي في حي نيتشلس (Nechells)، تحت إشراف مديرها المؤسس سعادة الدكتور سعيد القاضي، حضرها علماءُ وطلبةُ العلم وعامةُ الناس من جميع أنحاء بريطانيا، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ليتمتعوا بالاستماع إلى محاضرة ضيف الحفلة الكريم العلامة الموسوعي المتفنن الشيخ سعيد الكملي – حفظه الله تعالى ورعاه.

بدأت الحفلة إثْرَ صلاة العصر فوراً، في الساعة السادسة مساءً، واستمرّت إلى صلاة المغرب، وفي بداية الحفلة قدم عرض عن برامج ودورات الكلية المتنوعة، تلاه كلمة ترحيبٍ من عميد الكلية سعادة الدكتور عثمان شوشان، شكر فيها الحضور والضيوف، ثم ألقى فضيلةُ شيخنا الشاعر الأديب، الفقيه المحدث، سعادة الدكتور محمد السعيدي – حفظه الله تعالى ورعاه – قصيدة، جذبت النفوس بحلاوتها، وأخذت بمجامع القلوب ببراعتها. وما إن ختم شيخنا إلقاء قصيدته حتى علّق عليها الشيخ الكملي مخاطباً له وممازحاً: «أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ولكن أنكرت كلمة واحدة في القصيدة، وهي كلمة: «مهامه»؛ لأنه لا توجد «مهامه» في بريطانيا». فضحك جميع الحاضرين من لطافة الشيخ وطرافة هذه النكتة النفيسة.

ثم بدأ فضيلة الشيخ الكملي محاضرته البهيّة على موضوع: (وجمال العلم إصلاح العمل)، علماً بأن هذه الجملة عجز بيت من اللاميّة الشهيرة لابن الوردي (ت 759 هـ)، التي مطلعها:

اعتزل ذكر الأغاني والغزل :: وقل الفصل وجانب من هزل

وأما صدر البيت فهو:

وفي ازدياد العلم إرغام العدا

تحدث الشيخ عن أهمية طلب العلم ومصاحبته بالعمل، وبيّن أن العلم الذي لا يُصلح العملَ سيكون وبالاً على صاحبه، مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وقصص العلماء وأشعار الشعراء، وأوضح أن المراد بـ«العالم» في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم»[1] هو العالم العابد، لا العالم غير العابد. وكان الحاضرون يستمعون إلى الشيخ بكل شوق ورغبة، كأن على رؤوسهم الطير، وتارةً كان يضحكهم بالطُّرف والـمُلح، وتارةً يبكيهم بذكرى أهوال يوم القيامة وعذاب الآخرة.

وقد ذكر الشيخ في محاضرته قصتين رائعتين، قرعتا سمعي ووقرتا في قلبي، يتجلى بهما قدر العلم الشرعي، فالأولى منهما ما رواه الإمام مسلم في صحيحه[2]:

أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم ﷺ قد قال: «إن الله يرفع بالقرآن أقواما ويضع آخرين».

وأما الثانية فما نقله ابن عبد ربه في «العقد الفريد»[3]:

قال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال: فما هما؟ قلت: موليان. قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت موالي. فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت من الموالي. فاربد وجهه، ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاوس، وابنه وهمام بن منبه. قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا، ثم قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى. فازداد وجهه تربُّداً واسودّ اسواداداً حتى خِفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى. فازداد تغيظاً وحنقاً؛ ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فما كان؟ قلت: مولى. قال: فتنفّس الصُّعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عيينة، وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم، والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه.

وحينما اختتمت المحاضرة، فُتحت المنصة للمستمعين لأن يطرحوا أسئلتهم على الشيخ، وكان سعادة الدكتور سعيد القاضي يقرأ الأسئلة التي طرحت على الشيخ والشيخ يجيب عنها مباشرةً، بالإيجاز حين يقتضي الإيجاز، وبالتفصيل حين يقتضي التفصيل.

فمن تلك الأسئلة سؤالٌ سألتْه بعض الأخوات المسلمات أن: هل يجوز لامرأة مسلمة أن لا ترتدي الحجاب إذا خرجت للعمل حيث يتواجد الكفارُ في مكان العمل؟

فأجاب الشيخ: أن الحجاب واجب شرعي على الدوام ولا يجوز التخلي عنه في وقت من الأوقات من غير عذر شرعي، وأن على المسلمين أن يخرجوا من هذه النفسية الدنيئة والخنوع، وأن يتشجعوا في اتباع أوامر الشرع أينما كانوا وحيثما ساروا. ثم ذكر الشيخ قصة طريفة لشابّ لقيه في إحدى الدورات التي أقيمت في بعض دول أوربا، وذلك أن الشاب جاء إلى الشيخ قبل اليوم الأخير من الدورة وسلّم عليه، ثم أخبره أنه غير آتٍ اليومَ التالي؛ بسبب أن ذلك اليوم يوم العمل بالنسبة له، وأنه لا يمكن له أن يصلي في مكان عمله، حتى إنه يرجع إلى بيته ويصلي الصلوات كلها، فقال له الشيخ: لا بد لك أن تتكلم مع صاحب المتجر ليعطي لك الفرصة لأداء الصلوات في أوقاتها المحددة، وأن لا بد لك أن تحضر غداً. فلما اختتمت الدورة في اليوم التالي، جاء ذلك الشاب إلى الشيخ وسلّم عليه، ثم أخبره أنه تكلم مع صاحب المحل بالنسبة لأداء الصلوات المكتوبة فيه، فرضي صاحب المتجر، بل قال له موبّخاً: لِمَ لَمْ تستجزني قبل وأنا أيضاً مسلم؟  ثم قال الشاب: ولم يخطر ببالي قط أن صاحب المحل يمكن أن يكون مسلماً!

ثم علق الشيخ على هذه القصة أن كثيراً من المسلمين المقيمين في بلاد غير المسلمين يعانون من هذه النفسية الدنيئة، أنهم لا يريدون أن يطلع الناس على أنهم مسلمون، ويخجلون من هويتهم الإسلامية، فعلى المسلمين أن ينسلّوا من هذه النفسية المذمومة، وأن يفتخروا بدينهم، وألا يخافوا ولا يخجلوا من إظهار شعائر الإسلام والعمل بتعاليم دينهم السمحة أينما حلُّوا.

وكان كثير من الحاضرين يرجون لقاءَ الشيخ وجهاً لوجهٍ وأن يصافحوه، و قد أحسّت إدارة الكلية بهذه الأحاسيس فوضعت التراتيب من أجل تحقيق هذا الغرض المبارك، فما إن فرغ الشيخ من إجابة الأسئلة حتى قام الناس في صف واحد ونظام جميل وترتيب مهيب لأن يصافحوا الشيخ، وكان هذا المنظر الرائع يذكرنا بأيام الماضي الجميل، أيام السلف الصالحين، حين كان المسلمون يوقرون العلماء ويقدرونهم حق قدرهم.

وأعقب هذا البرنامجَ ببرنامج آخر بعد صلاة المغرب، اجتمع فيه نخبة من علماء وفضلاء وأئمة المساجد من جميع أنحاء بريطانيا، في مقرّ أكاديمية الرواد (Pioneers Academy) في برمنجهام، رغم أن معظمهم لم يجلسوا قط في مكان واحد لاختلاف مسالكهم ومشاربهم، ولا ريب أن اجتماع أولئك في ذلك المجلس أصبح ممكنا بسبب شخصية الشيخ الكملي المغناطيسية، التي تسعى دائماً في لمّ الشمل وجمع كلمة المسلمين وتُشجِّع على نبذ الخلاف واطّراح التفرق. فمن العلماء المرموقين الذين حضروا ذلك الملتقى المسائي والعشاء الشهي الشيخُ المفتي محمد شبير أحمد، والشيخ أسرار رشيد، والشيخ هيثم الحداد وآخرون كثيرون.

وبعد أن فرغ الضيوف من تناول العشاء أتيحت الفرصة للحضور مرة أخرى لأن يسألوا الشيخ الكملي ما يشاؤون، فممّا سُئل عنه بعضُ المسائل الخلافية التي طالما اختلف فيها مسلمو بريطانيا، مثل: وقت صلاة العشاء في ليالي الصيف، حين تكون الليالي قصيرة جدا، فاختلف فيه مسلموا بريطانيا في عدة آراء: فمنهم من يصلي العشاء بعد ساعة واحدة بالتحديد من غروب الشمس، ومنهم  من يصليه متصلا بعد المغرب، ومنهم من يصليه بعد ربع أو نصف ساعة من الغروب، فكان جواب الشيخ متوقَّعاً على منهجه المعروف أن: لا بأس بأن يصلي كل واحد على رأيه ويتبع اجتهاده، ما لم يعتقد أن الدين هو رأيه واجتهاده فقط وأن متبعي الآراء الأخرى على خطأ بيّن وضلال مبين.

وأما بالنسبة لهذا العبد الفقير فهذان اللقاءان وفّرا لي الفرصة الذهبية لأن أستفيد من الشيخ عن كَثَب، وأن أهدي إليه بعض مؤلفات فضيلة والدي العلامة الشيخ محمود حسين السلهتي – حفظه الله تعالى –، ولما قدمت إليه كتابين لفضيلة والدي – وهما: (تحفة الأخيار بما في الكتب الستة من المصاريع والأشعار) و (فتح البصير في أصول التفسير) – وكتاباً آخر حققه صديقي العالم الشابّ الشيخ محفوظ أحمد السلهتي، خطفتْ نظر الشيخ كلمةُ (السلهتي)، فسألني: ما هو (سلهت)؟ وكان الشيخ المفتي شبير أحمد جالساً على يمين الشيخ، فأجاب هو قبل أن أفتح فمي: «هي مدينة في دولة بنغلاديش المسلمة»، فاستلم الشيخ الكتب وقلّب بعض صفحاتها.

ولما اختتم المجلس قام العلماء وأئمة المساجد في جانبيه ليسلموا عليه ويصافحوه ويودعوه، راجين أن يشرفهم الشيخ بالحضور في مثل هذه المجالس مراراً وتكراراً.   وفي الجملة، إن هذين المجلسين وفّرا فرصة عديمة النظير لمسلمي بريطانيا عامة وعلمائها خاصة لأن ينتفعوا من علوم ومعارف الشيخ الكملي الموسوعية، وأتوقع من كلية برمنجهام للعلوم الإنسانية أن تنظم دورات وبرامج أخرى مثلها في الأيام القادمة، وجزى الله القائمين على الكلية أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة.      


[1]  رواه الترمذي: رقم 2685

[2] (رقم: 817)

[3] (3/363-364)

Scroll to Top