كان فداءُ الإسلام الشيخ خليل الرحمن الحَمِيدي من العلماء الربانيين والدعاة المصلحين الذين ضحوا أنفسهم وأموالهم في سبيل العلم وخدمة الدين. وكان محدثا بارعا وعالما جليلا وتقيا نبيلا، تتَلْمَذَ على كبار علماء زمانه فبرع في جميع العلوم والفنون، واستقى من معين أجلاء المشايخ الصافي فأفَاد الناسَ واهتدى به كثيرون.
ميلاده ونسبه:
ولد الشيخ – رحمه الله – في 3 من ذي الحجة عام 1361 هـ الموافق لـ 13 من ديسمبر 1941 م لأبوين متدينين وفي أسرة ذات دين وحسب وكمال. كان والده الشيخ لطف الرحمن المعروف بـ«شيخ برونا» من كبار تلامذة شيخ الإسلام العلامة السيد حسين أحمد المدني، وكان هو أيضا من خلفاء شيخ الإسلام في ميدان علم التصوف وإصلاح الناس. وكانت والدته نور النساء بيغم.
ولد الشيخ في قرية حَمِيدنَغر التي تقع في سِرِيمَنْغَل من محافظة مَوْلَوِي بازار، بنغلاديش.
التعليم الابتدائي والثانوي:
تلقى الشيخ خليل الرحمن تعليمه الابتدائي من والده الجليل شيخ برونا ومن جده المنشئ حميد الله – رحمه الله – ، فقرأ عليهما القاعدة القرآنية وجزء عم والتجويد وتعلم منهما قراءة القرآن الكريم. ثم تتلمذ على أساتذة وعلماء كبار من أمثال حضرة مولانا عبد الرحمن وحضرة مولانا عبد القدوس وحضرة مولانا مشرّف خان – رحمهم الله جميعا – ودرس عندهم كتب التعليم الثانوي بكل نجاح وامتياز.
التعليم العالي:
بعد أن أتم التعليم الثانوي قادَه حرصُه على العلم النبوي إلى الجامعة الإمدادية بكِشُوْرغَنْج عام 1961 م ليغرف من معين علوم العلامة الشيخ أطهر علي – رحمه الله – الذي كان من كبار علماء بنغلاديش ومن أجلّ خلفاء حكيم الأمة الشيخ أشرف علي التهانوي، حيث درَس سنتين فقط وقرأ كتاب «الهداية» للإمام المرغيناني وكتبا أخرى في فنون متفرقة.
وطلبا للتبحر في علوم الحديث سافر عام 1963 إلى كراتشي والتحق بالجامعة الإسلامية ببنوري تاؤن كي يتمكن من التتلمذ على أنبغ تلاميذ إمام العصر الشيخ أنور شاه الكشميري، أعني: العلامة المحدث النابغة الشيخ يوسف البنوري – رحمه الله – ، فدرس فيها كتب الحديث، مثل: مشكاة المصابيح والكتب الستة وكتبا أخرى في علوم الحديث وفنون أخرى بنجاح باهر وإنجاز فائق. وما لبث أن برع وتبحر في علوم الحديث حتى اشتاق إلى أن يتمكن في علم التفسير، فالتحق بقسم التفسير وعلومه بالجامعة وتتلمذ على حافظ الحديث العلامة عبد الله الدرخواستي – رحمه الله – وحاز على درجات فائقة في الاختبارات.
وكان كلما اغترف من بِرْكة علم، ازداد شوقا للاغتراف من نهره ثم من بحره… فما مضى حينٌ من الدهر بعد إكمال الدراسات في كراتشي حتى سافر إلى الجامعة التي بلغ صيتها الآفاق وغطّت شهرتها الديار والبلاد، والتي صارت مركز توجه جميع طلاب العلوم الشرعية في شبه القارة الهندية والبلاد المجاورة، وهي الجامعة الإسلامية الشهيرة بدار العلوم ديوبند. فلبث فيها الشيخ خليل الرحمن بضعة أشهر يستقي من معارف وعلوم شيخ الحديث العلامة فخر الدين المرادآبادي – رحمه الله – ويحضر دروسه لصحيح الإمام البخاري، وكان قد قرأ على مشايخ آخرين فيها أيضا.
وكان من دأبه زمن طلب العلم أن يستمع إلى الأستاذ بكل انتباه وتيقظ، ويكتب جميع ما يسمع من الأساتذة في كراسة، ولا يدع أي وقت بلا عمل أو قراءة أومراجعة، بل كان كثير المطالعة وحريصا على حفظ الأوقات، ولا يحب أن يشتغل مع الزملاء في محادثات لا تُجدي ولا تَنفع. وكان قد وضع لنفسه جدولا دراسيا يتبعه بكل دقة واعتناء؛ كيلا يَضِيع أي وقت من أوقاته النفيسة الغالية. فلا غَرْوَ أن نجح في دراساته بكل إنجاز وحاز في كافة الاختبارات بدرجات فائقة ونتائج رائعة، وصار عالما لا مثيل له يُشار إليه بالبنان، ويشتاق إلى لقائه والاستفادة من معارفه قلوبُ العلماء والعوام.
حياة مليئة بالجهود العظيمة والأعمال الجليلة
ولما أكمل دراساته في الخارج عاد إلى موطنه مقتفيا بسنن العلماء الربانيين والدعاة المهديين. ولقد قال الله تعالى: ﴿ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾. فأشغل نفسه في خدمة الدين والعلم ومضى فيها إلى أن وافته المنية. فالتحق بهيئة التدريس بالجامعة الإسلامية التي أسسها والده شيخ برونا المعروفة بالجامعة اللطفية أنوار العلوم بحميدنغر، ودرّس فيها عدة أعوام بكل جدارة ومهارةٍ جميعَ العلوم والفنون العربية والشرعية… فبناءً على كفاءاته في مجالات الإدارة والتنظيم اتفق رأي مجلس الشورى للجامعة على أن يتم توليته لمنصب المدير العام سنة 1966، وفي نفس السنة وُلّي منصب «شيخ الحديث» بالجامعة.
فاستمر في المنصبين لمدة امتدت إلى آخر حياته، فدرّس صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي وسنن أبي داود وكتبا أخرى في الحديث وعلومه زُهاءَ ستين سنة متتواليات… وكانت دروسه مليئة بغرر الفوائد ودرر الفرائد، وكان يقدم المسائل بعبارات واضحة جلية، يبرز منها المعاني الخفية ويجلو منها الدرر الكامنة.
وما استقال من مسؤوليات المدير العام إلا إذا لم يبق من عمره إلا ثلاثة أعوام، بعد أن كبر سنه وساءت صحته… فاستقر رأي مجلس الشورى ومجلس العمل بتعيين نجله مولانا القاري الشيخ بدر العالم الحميدي الذي يقيم حاليا في لندن.
وكان الشيخ شديد الحرص على خدمة الدين والعلم مهما أمكن، فبالإضافة إلى مسؤولياته الهائلة التي سبق ذكرها كان رئيسا لمنظمة دينية خيرية اجتماعية غير سياسية تسمى «أَنْجُمَنِ حِفَاظتِ إسْلام»، وكان والده شيخ برونا قد أسسها سنة 1944 م، فقام الشيخ بأداء دوره رئيسا لها إلى أن توفي. وعمل أيضا مستشارا لمجلس تعليم القرآن الكريم مسمّى بـ«الخليل»، ونائب رئيس لـ«وفاق المدارس العربية» ببنغلاديش، وهو أكبر مجلس تعليمي للجامعات والمدارس الإسلامية في الدولة. وعلاوة على ذلك عمل كمرشد لعديد من المؤسسات التعليمية والدينية الأخرى.
مؤلفاته القيمة:
لم يكن الشيخ خليل الرحمن مدرسا بارعا ومعلما ناجحا ومربيا متقنا فحسب، بل كان له مساهمات جليلة في مضمار التصنيف والكتابة، وكان خط يده جميلا جدا بالإضافة إلى كامل مهارته في اللغات العربية والأردية والفارسية والبنغالية. نذكر هنا قائمة غير كاملة لمؤلفاته:
أنوار الترمذي – وهو شرح على جامع الإمام الترمذي، جمعه من دروس شيخه العلامة المفتي ولي حسن التونكي – رحمه الله –، قد صدر منه جزءان، والجزء الثالث قيدَ الإعداد
ترجمة القرآن الكريم (غير مطبوع)
الإسلام والعلوم
محاضرة تلمس القلوب (تحرير)
الدروس البدائية لحفاظتِ إسلام
محاضرة ليلة النصف من شعبان
ستة منازل (قصيدة)
حياته العائلية:
اختار الشيخ خليل الرحمن امرأة ذات شرف وعلم وتقى لتكون له عونا في كل خير، وذلك في سنة 1385 هـ ، وهي بنت المولوي سخاوت حسين خان، وكانت كاتبة ومصنفة ومديرة لقسم النساء لمنظمة أنجمن حفاظت إسلام. قد ألفت عدة كتب، منها «حياة الشيخ البرنوي»، وقد توفيت في 14 ربيع الأول 1440 هـ الموافق 23 نوفمبر 2018 م وقت السحر من ليلة الجمعة.
خلّف فداء الإسلام وراءه ثلاثة بنين وخمس بنات. فأما البنون الأفاضل فهم:
مولانا الشيخ نورِ عالم الحميدي: وهو نائب المدير العام لجامعة برونا، والمدير المؤسس لمؤسسة أنجمن حفاظت إسلام بريطانيا، ورجل إعلامي شهير له ارتباط بمؤسسات شتى.
مولانا القاري الشيخ بدر العالم الحميدي: وهو المدير العام الحالي للجامعة، والمدير المؤسس لمجلس تعليم القرآن الكريم المسمّى بـ«الخليل»، ورجل إعلامي معروف في بريطانيا، وله رحلات دورية في بلدان مختلفة من أوروبا وأفريقيا من أجل الخدمات والأعمال الخيرية.
مولانا الشيخ هادي عالم الحميدي: وهو نائب المدير للجامعة ونائب رئيس مؤسسة «الخليل».
وأما البنات الفاضلات فهن:
زوجة مولانا أبي القاسم – حفظهما الله
زوجة الشيخ مجدِّد علي – حفظهما الله
زوجة مولانا القاري شفيق الدين – حفظهما الله
زوجة المقدم محمد فرهاد حسين خان – حفظهما الله
زوجة مولانا المفتي عتيق الرحمن – حفظهما الله
وتزوج الشيخ بامرأتين صالحتين أخريين أيضا. وصار من أحفاده وأسباطه علماء أفاضل وحفاظ للقرآن الكريم.
التزكية والسلوك والإحسان
بايع الشيخ خليل الرحمن والدَه شيخ برونا على التزكية والإحسان وحصل على الإجازة منه وبرع في فن التصوف. وحصل له الإجازة أيضا من الشيخ العلامة عبد النور الإنْدِشَّري والشيخ العلامة عبد القادر شيخ تِيتُيَّا. وعلاوة على ذلك حضر مع والده في حضرة شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني في آخر اعتكاف اعتكفه في بَاشْكَانْدي بالهند.
وكان له مجالس الوعظ والتزكية، فانتفع منه خلق كثير وجمع غفير. وكان شديد الحرص على اتباع سنة سيد المرسلين، حتى في آخر أوقاته حينما كان يعاني من مرض شديد لم يفُتْ منه صلاة التهجد ولا العمل بسنة السواك، ولا ريبَ أن مواظبته على اتباع السنة قد أدهشت الأطباء والممرضين الذين كانوا يشتغلون في قسم العناية المركزة.
وكان ذا خلق حسن، يعجب به كل من لقيه، ويبذل كل جهد لأداء حقوق الناس. وكان متواضعا ومِقْرًى للضيف وذاعت أخبار صفاته الجميلة في كافة أنحاء البلاد، فكان محبّبا ومكرّما عند جميع طبقات الناس من العوام والعلماء دون أي تفرقة.
الوفاة:
انتقل الشيخ خليل الرحمن إلى رحمة ربّه رافعا سبابته وتاليا كلمةَ الشهادة في الساعة الواحدة والخمسة والأربعين في ليلة الجمعة من 21 صفر 1442 هـ الموافق 9 أكتوبر 2020 م … فإنا لله وإنا إليه راجعون … وكان قد بلغ من العمر 80 سنة… غفر الله له وأدخله فسيح جنانه.