هو الداعية الكبير، العالم الرباني، المفكر الإسلامي، التقي، الورع، الحصيف، محيي السنة، الشيخ أنوار الحق – رحمة الله عليه رحمة واسعة.
كان من العلماء الربانيين، الراسخين في العلم والعِرفان، الذين قلما يوجد أمثالهم في أي زمان. وكان همُّه الواحدُ وهوَاه الثابتُ هو خدمة الدين الإسلامي ونصرة المسلمين، لاسيما نساء وبناتهم. فإنه – رحمه الله – كان من العباقرة الأفذاذ الذين فطنوا لأهميةِ التعليم الديني للبنات وخطورةِ تربيتهن تربية إسلامية ترتكز على تنوير أذهانهن بنور الإيمان وتعاليمه السمحة الخالدة، في الِحقبة التي كان المسلمون في بنغلاديش لا يُبالون بتزويد بناتهم بالتربية الدينية وتعاليم الإسلام.
فلم يَدَعِ الشيخُ تلك الفكرةَ تبقى في عالم الفكرة، بل بذل كل ما في وسعه من جهد ومال في تحقيقها وإعطائها حياة كاملة، وقضى عمره كله بجد وكد في سبيلها، فأسس إحدى كبرى المدارس والجامعات الإسلامية في بنغلاديش لبنات المسلمين – كبارهن وصغارهن – حيث يتلقين العلوم الدينية الصافية والتربية الإسلامية السمحة، ويتربين مسلماتٍ فخورات بدينهن وتقاليدهن الإسلامية.
نسبه ومولده:
هو الشيخ أَنْوَار الحق بن الشيخ نُوْر الحق. ويتصل نسبه إلى أحد أصحاب حضرة الشاه جلال المُجرد اليمني – رحمه الله –، وهو حضرة الشاه علاء الدين – رحمه الله –، ويتصل نسب الشاه علاء الدين إلى خليفة الرسول سيدنا أبي بكر الصديق – رضي الله عنه.
والجدير بالذكر أن حضرة الشاه جلال – رحمه الله – هو الداعية المجاهد الذي هاجر من اليمن إلى بلدة سلهت، إحدى أهم مدن دولة بنغلاديش، لنشر الإسلام، فأسلم على يديه عدد لا يحصى من هذه البلدة، وكان كلهم أو جُلّهم من أتباع الديانة الهندوسية.
فرحم الله أهلها وأفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
ولد الشيخ أنوار الحق – رحمه الله – في قرية سُلْطَانْفُور، وهي تقع على بُعْد عدة أميال من قلب مدينة سلهت، في دولة بنغلاديش.
نشأته العلمية:
تقلى الشيخ التعليم الابتدائي من المدرسة الإسلامية التي أسسها آباؤه وأجداده في قريته، فدرس فيها حتى بلغ الصف الثامن، ثم ارتحل إلى مركز مدينة سِلْهِت للدراسات العليا، فالتحق بـ«الـمدرسة العالية» العريقة، واستمر في دراسة العلوم والفنون المختلفة بكل جد ونشاط لسنوات عديدة، حتى تخرج منها عالما بارعا متقنا وداعية حكيما.
الحياة العملية:
بَعْدَ أن أكمل دراساته، اشتغل في بادئ الأمر بالتجارة، مهتديا بهدي سيد التجار الأبرار، ثم وُلِّي إمامة أكبر جامع في مدينة سِلْهِت، وهو الجامع الكبير قرب مرقد حضرة الشاه جلال اليمني – رحمه الله، فظل فيه إماما وخطيبا حوالي عشر سنين من سنة 1962 إلى سنة 1972 م.
ومن أخباره أثناء إمامته هناك أنه ذات يوم أمطرت السماء مطرا غزيرا، وكان فئة من المُشَعْوذين المحتالين باسم التصوف يقيمون وينامون قريبا من المرقد – ولا يزالون –، وكانوا لا يُصَلُّون الصلوات المكتوبات، ولا يُبالون بأركان الإسلام ولا بفرائض الدين، ويخدعون الناس بمظاهرهم الدينية الزائفة التي ينخدع بها الجهالُ والسُذّج من الناس ولا تخفى على العلماء وأولى الألباب. فأخذ الشيخ مظلة وتوجه تلقاء المحتالين، فحادثهم ودعاهم إلى الصلاة والجماعة، فلا أحدَ أجابه ولا رجلَ استمع إليه.
ففكر في نفسه: ما فائدة إمامتي في هذا الجامع إذا لم أكن قادرا على المجيء بهؤلاء إلى المسجد؟ فعزم من ذلك الحين أن يستعفي من الإمامة في ذلك المسجد.
ثم رجع إلى قريته واستقر بها، فعكف فيها داعيا الناسَ إلى دين الله وكلمته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وركز على إصلاح المجتمع، فبدأ بأهله وذويه، ثم بجيرانه وأهل قريته.
وكان في ذلك الزمان يخرج إلى الأسواق، فيدعو الناس – راكبا على العربة – إلى الله، وكان يلقي كلماته مستخدما مكبر الصوت، ليبلغ صوته أقصى نواحي السوق. فكان الناس يجتمعون حوله ويستمعون إلى مواعظه ويستفيدون من كلماته.
تأسيس الجامعة الطيبة «حضرة الشاه سلطان» للبنات
كان الشيخ – رحمه الله – يمتلك فكرا صائبا، وذهنا وقادا، وقلبا خاشعا، وذكاء نادرا، تهمّه أوضاع الأمة الإسلامية الرثّة، وتحزنه أحوالهم التَعِسة.
وكان صاحب فطنة نادرة وبصيرة باهرة، يتضح مدى نباهته وبعد نظره من خلال تحليل الأوضاع التي كانت سائدة في المجتمع الإسلامي في بنغلاديش وموقف المسلمين تجاه التعليم الديني للبنات والفتيات قبل بضعة عقود.
فإن المسلمين في بنغلاديش بعد استقلالها من باكستان – وأيضا قبل الاستقلال – كانوا يعتنون بالتعليم الديني للبنين والفتيان فقط، ولم يتنبهوا لأهمية تزويد البنات بالتعليم الديني، فنشأ – بحمد الله – جيل كبير من العلماء والدعاة الشباب في جميع أنحاء بنغلاديش، ولكن – للأسف – ندُر وجود بنات ونساء عالمات بالإسلام وتعاليمه.
وكان العلمانيون والجمعيات النسوية يتربصون بنات وفتيات المسلمين بالمرصاد. فكانوا – ولا يزالون – يستخدمون وسائل الإعلام والمنهج التعليمي في المدارس الحكومية لإثارة الشبهات حول الإسلام وتاريخ المسلمين. فكانوا يذيعون ويبثُّون أن الإسلام لم يعط المرأة أي حق، ولئن كان أعطى بعض الحقوق فهي رمزية واسمية فقط، وليس لها أي وجود في الحقيقة، وأن الإسلام يعد المرأة خادمةً للرجل، وليس لها أي مكانة أو دور تلعب في المجتمع الإنساني. وكانوا يستفزون المسلمات أن يخرجن من بيوتهن ويُزَاحِمن الرجال في جميع الأعمال والمهن.
فوقع عدد كبير من الفتيات الساذجات فرائسَ كيدهم وصِرْن مفتونات بشعاراتهم البراقة وكلماتهم الخلابة، التي لا يقصد منها إلا الباطلُ، وليس لها أي هدف إلا تدمير هيكلة الأسرة المسلمة.
فأدرك الشيخ – رحمه الله – فداحة هذا الأمر، وخطورة مكائد الأعداء العلمانيين، وتبين له أن لو تُرِكت الأوضاعُ كما هي فَلَيأتِيَنَّ زمان يعسر فيه وجود فتيات مسلمات مؤمنات بالله غيورات لدين الله.
وبينما الأمر يستمر كذلك، ذاتَ يوم ولدت له بنتٌ، وهي كبرى أولاده، فازداد همه وغمه – لا لأنه رزق بنتا – بل، لأنه لم يوجد في ذلك الزمن أيّ مدرسة توفِّر التعليم الإسلامي العالي والتربية الإسلامية العليا للبنات.
فبدأ الشيخ يفكر.. ويفكر.. ويبحث عن حل لهذه المشكلة الخطيرة.. فكان الله معه.. فلَاحَ له الحلُّ من غير بعيد.. وأتى إليه الحق إتيانَ العيد.. فأدرك بفراسته الإيمانية أن لا بد من تأسيس مدرسة وجامعة إسلامية لبنات المسلمين التي ستكون حصنا حصينا ومَعْقِلا منيعا للمسلمات في مواجهة مؤامرات الأعداء ومكائد العلمانية.
فاستخار اللهَ في ذلك الأمر واستشار علماءَ بلده.
وذات يوم اجتمع هو والشيخ المحدث الكبير نور الدين الجَوْهَرْفوري والشيخ عبد القدوس الجَامْبَاكَانْدِي. فقال الشيخ الجوهرفوري له: «أيها الحاجي الأعلىفوري (وكان يدعوه بهذا الاسم)، عليك بأخذ إجراءات تجاه هؤلاء الفتيات المتبرجات» (يعني: الفتيات اللواتي كن يدرسن في المدرسة الثانوية الحكومية في القرية).
فاغتنم الشيخ أنوار الحق تلك الفرصة، وعرض على الشيخين: «ما رأيكما في أن أبدأ ببناء مدرسة وجامعة إسلامية للبنات؟»
فأجاب كلا الشيخين: «نِعْمَ العمل هذا! وأحْسِن بهذه الفكرة!»
فحينئذ شمر الشيخ أنوار الحق – رحمه الله – عن ساعد جِدّه، وأخذ يؤتي فكرته لباس الحقيقة، فوضع حجر أساس مدرسة إسلامية في قريته قرب داره سنة 1982 م، وسماها: «الجامعة الطيبة حضرة شاه سلطان للبنات».
فكان ذلك بداية مدرسة غَدَت كبرى جامعة إسلامية للبنات في بنغلاديش بعد عدة عقود، كَنُوَيْرَة خرجت من شُجَيْرة ثم أصبحت وردة فواحة تعطّر الجو بعَرفها الشذي وتُطيِّب البيئة بطِيبها العطر.
ميزات الجامعة الطيبة وخصائصها
إذ كان الشيخ – رحمه الله – مَعْنيّا بجميع شؤون بنات المسلمين – لا التعليم فحسب -، صمّم المنهج التعليمي للمدرسة على طريقة مبتكرة لم يقلد فيها أحدا ولم يهتد بهدي رجل – إلا بهدي سيد المرسلين –. وكانت خطته من البداية أن يربي فتيات مُسلَّحات بسلاح الإيمان، مُتضلعات بالعلم والعرفان، مُزوَّدَات بحذاقة الحِرَف والجودة والإتقان، حتى يُصبِحْنَ أنفع لأنفسهن وأهليهن. فَعُنِي بتعليم فنون الخياطة، والحياكة، والتطريز والتوشية، وفنون الطبخ، وما إلى ذلك من حرف أخرى تليق بالبنات والنساء، إلى جانب تعليم علوم الشريعة والعربية.
وافتتح دورات تدريبية قصيرة المدى لنساء متزوجات وكبيرات السن، وهذه الدورات تحتوي على مواد دينية وعصرية تمتد إلى سنتين أو ثلاث سنوات، وتهدف إلى سد حاجات نساء تلك الأعمار. وبذلك تمكّن من إتاحة فرص ذهبية للنساء اللواتي كُنَّ قد يئِسْن من طلب العلم الديني، وسدَّ فراغا كبيرا في الساحة العلمية والدينية للمجتمع الإسلامي.
وبالإضافة إلى ذلك، حثَّ الطالبات أن يصبحن داعيات إلى دين الله، فنفخ في قلوبهن حب الدعوة إلى الله، وغرز فيهن حب دينه وحب رسوله.
وكان يعطي كل واحدة منهن خطة الدعوة، التي كانت تحتوي على نقاط مُهِمة تشرح لهُنّ أساليب الدعوة الناجحة، فكان يحض الطالبات أن ينشرن نور التعليم الديني في البيئة التي يُقِمْن فيها، وينصحُهن أن يعتنين بتعليم أمهاتهن وأخواتهن وصديقاتهن وبنات ونساء القرية التي يسكنّ فيها.
وكان يشجِّـع جميع الطالبات على إقامة حلقات الدعوة في ديارهن – حلقة واحدة على الأقل كل أسبوع. وكان يقول دائما: «المجتمع يصلح بصلاح النساء والبنات».
فكانت نتيجة هذا النهج البديع أن سرعان ما تغيرت أوضاع المجتمع الإسلامي في الأقاليم المجاورة لـ«الجامعة الطيبة»، وبدأ المسلمون يبعثون بناتهم ونسائهم إليها، فتدفقت الطالبات من جميع أنحاء بنغلاديش كسيل عرم. وتخرجت منها جماعة كبيرة من بنات المسلمين عالماتٍ عاملات، تقيات نقيات، صاحباتِ نفوسٍ زكيات وهمم عاليات.
ولما رأى المسلمون مآثر «الجامعة الطيبة» الحسنة أن انتشرت، ومكارمَها أن تكاثرت، وشاهدوا ثمارها الطيبة شهودَ عيان أن أيْنعت، ما لبثوا أن أخذوا اقتفاء آثارها واتباع خطواتها، فشرعوا في تأسيس مدارس إسلامية أخرى للبنات في جميع أقطاع بنغلاديش من مدن وقرى وأرياف بعيدة. فكانت النتيجة أن كثر عدد المدارس الإسلامية للبنات في جميع أصقاع البلاد، وانتشر نور العلم والإيمان بين نساء المسلمين وبناتهم من غير استثناء.
وبما أن الشيخ كان له قصبُ السَّبْق في تأسيس وإدارة مدرسة وجامعة إسلامية ناجحة للبنات، رجع كثير من مديري المدارس الجدد إليه للاستشارة بشؤون الإدارة والتنظيم، وأشرف هو نفسه على إنشاء مدارس أخرى في شتى المدن والقرى.
قائمة وجيزة للمدارس الإسلامية التي كان الشيخ أنوار الحق – رحمه الله – يديرها بنفسه:
وفيما يلي نذكر قائمة وجيزة للمدارس الإسلامية التي كان الشيخ أنوار الحق – رحمه الله – يديرها بنفسه، وهي:
الجامعة الطيبة حضرة الشاه سلطان للبنات والبنين
مدرسة منارة العلوم للبنات، بَالُوْسَر، سلهت
مدرسة البنات، بَنْغَاو، تَالْتَلا، دِيوانْبَازَار
مدرسة البنات، أُوزِيالْفُور، غَوْهَرْفُور، بَالَاغَنْج
مدرسة البنات، مُبَارَكْفُور، سَرْكَارْبَازَار، مَوْلَوِيْبَازَار
مدرسة الحاجة صالحة خاتون للبنات، مُخْتَارْفُور، بَرَاهِيْمْفُوْر، شِيْلَام، سلهت
قائمة وجيزة للمدارس الإسلامية التي أسست على نهج «الجامعة الطيبة»:
وفيما يلي قائمة وجيزة للمدارس الإسلامية التي أنْشِئَت تحت إشراف الشيخ على نهج «الجامعة الطيبة»، ومدراءُها كانوا يستشيرون من الشيخ في شؤونها الإدارية:
المدرسة الإسلامية للبنات، بشارع شِنْدُوْرْخَان، سِرِيْمَنْغَل
مدرسة كَالِيغَنْج للبنات، ببِشُوْنَات
مدرسة الحاج عبد الستار، بشِيمُولْتَلا، بِشُونات
مدرسة إسلامْفُور للبنات، بعُمَرْفُور، عُثْمَانِيْنَغَر
مدرسة غُوْشْغَاوْ للبنات، عثمانينغر
مدرسة بَرَاحَاجِيْفُوْر للبنات، عثمانينغر
مدرسة قَاضِيْغَاوْ العثمانية للبنات، بتَاجْفُوْر، عثمانينغر
مدرسة سَرُوْفَوْد للبنات، بكَنَائِيْغَات، سلهت
مدرسة سَخَائِيْتِي للبنات، بسَاتَك، سُنَامْغَنْج
الجامعة الطيبة بآدَمْخَانِي للبنات، ببَانِيَاسَنْغ، حَبِيْغَنْج
مدرسة جَلَالْفَارَا للبنات، بدَيَامِيْر، عثمانينغر
مدرسة جِكْنَاغُوْل العزيزية للبنات، بهَرِيْفُوْر
الجامعة النعمانية للبنين والبنات، بفَايِل، حَبِيغنج
ومدارس أخرى كثيرة لا تعد ولا تحصى.
الوفاة
بعد أن قضى حياة حافلة بفعاليات ونشاطات، وعمرا مليئا بمجاهدات ومكابدات، وزمانا مشحونا بأسفار ورحلات، ودّع الشيخ أنوار الحق – رحمه الله – هذه المعمورة الفانية ورحل إلى الآخرة الباقية يومَ الاثنين في تمام الساعة الرابعة والخمسين دقيقةً في السابع من شوال عام 1441 هـ الموافق للأول من شهر يونيو سنة 2020 م.
فرحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه دار النعيم، وجزاه الله عنا وعن المسلمين بما قدم لهم، وأبقى دور التعليم اللاتي أسسها إلى يوم الدين. آمين… يا رب العالمين.
كتبه: عبد الله فهيم
إمام وخطيب مسجد التقوى
كِيرِيكْس لِين، بِرْمِنْجَهام، بريطانيا